الإثنين , 24 نوفمبر 2025
يطلّ على الجنوب في 30 نوفمبر من كل عام حدثٌ ليس كغيره، ذكرى لا تتقادم ولا تخبو مهما مرّت السنوات أو تكاثرت الأحداث. إنها الذكرى الـ 58 للاستقلال الوطني الأول عام 1967، يومٌ تحررت فيه العاصمة عدن وسائر محافظات الجنوب من الاحتلال البريطاني، بعد نضال طويل امتد لسنوات وقدّم خلاله أبناء الجنوب أرواحهم ودماءهم في سبيل الحرية والسيادة والكرامة. لكن ما يميز هذه الذكرى اليوم ليس أنها مجرد محطة عاطفية في ذاكرة وطنٍ يناضل، بل لأنها أصبحت جزءًا من الوعي السياسي الحديث للجنوبيين، وجزءًا من مشروع وطني تقوده مؤسسات وهيئات، في مقدمتها المجلس الانتقالي الجنوبي.
فالذكرى الـ58 تأتي في ظرف سياسي بالغ التعقيد، تجتمع فيه دروس الماضي مع تحديات الحاضر ورهانات المستقبل. تأتي في وقت يسعى فيه الجنوب لانتزاع استقلاله الثاني، في مواجهة مشاريع سياسية معادية، وهجمات إعلامية، ومحاولات إعادة الهيمنة عليه تحت مسميات مختلفة.
وفي هذا المشهد، يتحول الاستقلال الأول إلى رمز، ويتحول الاحتفال به إلى تأكيد سياسي بأن الجنوب ما يزال حيًا، وأن ذاكرة التحرر ليست مجرد صفحة من التاريخ، بل حكاية تتجدد في كل جيل.
-الاستقلال الأول ذاكرة وطن لا يمكن تجاوزها
في 30 نوفمبر 1967، أعلن الجنوب انتصاره العظيم على أعتى قوة استعمارية في ذلك الوقت، بعد سنوات من الكفاح المسلح الذي خاضته فصائل الثورة في مختلف مناطق الجنوب. كان ذلك اليوم بمثابة ولادة جديدة لوطنٍ أراد أن يخرج من حلبة الاحتلال إلى فضاء بناء الدولة.
لم يكن الاستقلال حدثًا عابرًا، بل كان تأسيسًا لمرحلة سياسية جديدة اتسمت بالهوية الوطنية الواضحة، وبناء المؤسسات، وتعزيز مفهوم الدولة المركزية، وهو ما جعل الجنوب في سنواته الأولى نموذجًا في التنظيم السياسي والإداري.
إلا أن هذه التجربة لم تستمر طويلًا، إذ دخل الجنوب لاحقًا في صراعات داخلية وإقليمية، ثم تمت الوحدة مع الشمال بطريقة غير مدروسة عام 1990، لتشهد السنوات التالية واحدة من أقسى مراحل التهميش والاستهداف، وصولًا إلى حرب 1994 التي دمّرت كامل مؤسسات الجنوب وأدخلته في نفق من الاضطراب القسري.
لكن رغم ذلك، بقي الاستقلال الأول حيًا.
بقي علم الجنوب في ذاكرة الناس، بقيت أسماء الشهداء والأبطال محفورة في الوجدان، وظلت الأغاني الوطنية الجنوبية تُردد في المناسبات، وظل الجيل الجديد يحفظ تفاصيل ثورة 14 أكتوبر ويوم 30 نوفمبر رغم محاولات طمسها.
فلم يكن بإمكان القوى المسيطرة على الجنوب، مهما حاولت، أن تنتزع منه ذاكرة شعبه.
-عدن تستعيد نبضها الوطني
تكتسب الذكرى الـ58 هذا العام أهمية مضاعفة لأن العاصمة عدن، برمزيتها السياسية والتاريخية، تستعيد شيئًا من بريقها الوطني. فالشوارع التي كانت ساحة نضال قبل 58 عامًا، تعود اليوم لتكون ساحة احتفال ورمزًا للوحدة الجنوبية.
تتلون كريتر والمعلا وخورمكسر والتواهي والشيخ عثمان بألوان علم الجنوب، وتصدح الأغاني الوطنية الجنوبية في الساحات العامة، وتقام الفعاليات الثقافية والفنية، بينما تعود ذاكرة عدن إلى لحظة خروج آخر جندي بريطاني من بوابة مينائها.
لكن الاحتفال لا يقتصر على الاستعراض والفعاليات؛ إنه فعل مقاومة معنوي ورسالة سياسية واضحة بأن الجنوب يمتلك ذاكرة عصية على التلاشي، وأن محاولات القوى المعادية لخلق واقع جديد على الأرض لم تنجح في زعزعة قناعة الناس بخصوصية هويتهم الوطنية.
وما يدفع هذه الفعاليات إلى مستوى أكثر نضجًا هو وجود قيادة جنوبية حاضرة بقوة في المشهد، تعمل على تنظيم الاحتفالات، وتوجيه رسائل سياسية عبرها، وتعزيز مفهوم الهوية الوطنية في وعي الشباب والأطفال.
-صانع مشروع الاستقلال الثاني
لا يمكن فهم الاحتفال بالاستقلال اليوم دون فهم الدور المحوري للمجلس الانتقالي الجنوبي. فمنذ تأسيسه عام 2017 بقيادة الرئيس القائد عيدروس قاسم الزُبيدي، أخذ المجلس على عاتقه مهمة إعادة الاعتبار لقضية شعب الجنوب، وإحياء الرموز الوطنية، وترسيخ الاستقلال الأول في وجدان الأجيال الشابة.
لقد أعاد المجلس الاعتبار للذاكرة الوطنية من خلال: إحياء المناسبات التاريخية بشكل رسمي وشعبي واسع. وتضمين رموز النضال الجنوبي في الخطاب السياسي والإعلامي. وتنظيم الفعاليات والندوات التي توثق للتاريخ الوطني. ودمج الذاكرة التحررية في منظومة العمل السياسي الحديث.
ومع مرور السنوات، أصبح يوم 30 نوفمبر ليس مجرد مناسبة، بل حدثًا سياسيًا ضخمًا تتفاعل معه المؤسسات، والقيادات، والقوات العسكرية، والطلاب، والإعلاميون، والرياضيون، والمرأة الجنوبية، في لوحة وطنية تعيد إنتاج الوعي الجمعي.
كما يعمل المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم على تحويل ذكرى الاستقلال إلى رافعة سياسية تعزز شرعية المشروع الوطني الجنوبي، وترسخ فكرة أن الجنوب قادر على استعادة دولته بنفس الروح التي حرر بها أرضه عام 1967.
-ترسيخ ذكرى الاستقلال في عقول الأجيال
من أهم الأدوار التي يلعبها المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم هو نقل روح الاستقلال الأول إلى الأجيال الجديدة.
فبعد سنوات طويلة من محاولات طمس الهوية الجنوبية في المناهج والمدارس والإعلام الحكومي، يأتي المجلس ليعيد تشكيل الوعي الوطني عبر مختلف الأدوات المتاحة. حيث يعمل المجلس الانتقالي على: تنظيم فعاليات مدرسية وجامعية تستعرض تاريخ الجنوب ورموز استقلاله. وإقامة مسابقات ثقافية ووطنية تهدف إلى تعريف الطلاب بتاريخهم. وإحياء الذاكرة التحررية في وسائل الإعلام الجنوبية عبر تقارير وبرامج وثائقية. وتشجيع الإنتاج الثقافي والفني الوطني الذي يعزز الهوية الجنوبية. وربط الاستقلال الأول بالمشروع السياسي الحديث تحت شعار “الاستقلال الثاني مسار وطني لا رجعة عنه”.
هذا الاستثمار في الوعي يشكل جزءًا من استراتيجية بعيدة المدى، تهدف إلى تحصين المجتمع في الجنوب من مشاريع الاختراق والاستقطاب، وترسيخ قناعة راسخة بأن الاستقلال ليس مجرد حدث تاريخي بل هوية وحق لا يسقط بالتقادم.
وبذلك، يتحول الاحتفال بالذكرى الـ58 إلى مساحة تربوية وثقافية، يتفاعل معها الأطفال والشباب، ويكبرون على يقين أن هذا الوطن له جذور، وله تاريخ، وله تضحيات، وأنهم هم امتداد لهذا المسار النضالي، وأن الدولة الجنوبية ليست حلمًا، بل استحقاقًا سياسيًا واجبًا.
الاستقلال بين الماضي والحاضر
تأتي الذكرى الـ58 في لحظة يسعى فيها الجنوب للخروج من سنوات طويلة من الصراع، وبناء مؤسساته العسكرية والأمنية والسياسية.
وتظهر بوضوح الهجمة المركّبة التي تستهدف الجنوب، سواء من قبل ميليشيات الحوثي، أو القوى الإخوانية، أو الجماعات الإرهابية، والتي تعمل على زعزعة الأمن، ونشر الفوضى، واستهداف الرموز الوطنية.
وتعيد هذه الهجمة إلى الأذهان صورة القوى التي حاولت بعد 1967 ضرب التجربة الجنوبية، وصورة القوى التي شنّت حرب 1994.
لكن الفارق اليوم أن الجنوب يمتلك قيادة سياسية موحدة، وتمثيلاً وطنيًا معترفًا به، وقوات عسكرية وأمنية قادرة على الردع، ووعيًا شعبيًا يدرك خطورة المرحلة.
ومن هنا، فإن الاحتفال بالاستقلال لا ينفصل عن المعركة السياسية القائمة، بل يعد جزءًا منها. إنه رسالة واضحة بأن الجنوب لن يقبل العودة إلى الوراء، وأن مشروع الاستقلال الثاني أصبح أكثر رسوخًا وقدرة على الاستمرار.
-الدور المتنامي للجنوب
لا يمرّ احتفال الجنوب بذكرى الاستقلال دون أن تلتقطه العواصم الإقليمية والدولية. فالموقع الاستراتيجي للجنوب، ووجود مؤسسات سياسية صاعدة، ومساهمة قواته في حماية الملاحة الدولية ومكافحة الإرهاب، كلها عوامل جعلت الجنوب لاعبًا رئيسيًا في التوازنات الإقليمية.
وبالتالي، فإن إحياء ذكرى الاستقلال لا يحمل فقط طابعًا وطنيًا، بل يحمل أيضًا بعدًا استراتيجيًا يؤكد أن الجنوب يشق طريقه ليكون دولة فاعلة وركيزة أساسية في أمن المنطقة، تمامًا كما كان قبل 1990.
-ذاكرة تستعاد، ودولة تُولد من جديد
إن الذكرى الـ58 للاستقلال ليست مجرد محطة للاحتفال، بل هي لحظة لتجديد العهد، ولإعادة قراءة التاريخ بعين ترى المستقبل.
فالاستقلال الأول كان بداية الحكاية، لكن الاستقلال الثاني هو نهاية الطريق الذي تسير فيه الأجيال اليوم.
ومع الدور الكبير الذي يقوم به المجلس الانتقالي الجنوبي في ترسيخ هذه الذكرى في عقول وقلوب الأجيال، وفي تعزيز الهوية الوطنية الجنوبية، وفي قيادة المشروع السياسي نحو استعادة الدولة، يمكن القول إن الجنوب يقف اليوم على بوابة مرحلة تاريخية جديدة. مرحلة تستند إلى ذاكرة وطنية صلبة، وإرادة شعب لا تُكسر، وقيادة سياسية تدرك معنى الاستقلال وتعمل على حماية مكتسباته. 30 نوفمبر ليس تاريخًا قديمًا، إنه روح وطن تتجدد، ورسالة تتوارثها الأجيال، وبوابة نحو مستقبل تُستعاد فيه الدولة الجنوبية كاملة السيادة، كما أرادها الشهداء والأبطال، وكما يصنعها اليوم أبناء الجنوب بقيادتهم السياسية الواحدة.
نوفمبر 24, 2025
نوفمبر 23, 2025
نوفمبر 22, 2025
نوفمبر 20, 2025