يبقى مجلس القيادة الرئاسي كياناً مثيراً للجدل ليس لأنه يمثل إرادة الشعب مباشرة بل لأنه نتاج توازنات معقدة فرضتها سنوات الصراع الطويلة حيث صُمم المجلس ليكون أداة مؤقتة لإدارة الأزمة أكثر من كونه حلاً حقيقياً والفكرة الأساسية التي يقوم عليها هي جمع أطراف متنافسة تحت مظلة واحدة تبدو منطقية على الورق لكنها تحولت عملياً إلى “نصف فكرة صحيحة” تُضعف الوحدة والانسجام داخل المجلس وتكسب الصراع مساراً رسمياً وشرعياً بينما تعجز الدولة عن تقديم حلول ملموسة لمواطنيها . على المستوى العملي يمثل المجلس واجهة لتلقي الدعم السياسي والمالي ونجح بذلك في توفير غطاء للتعامل معه على أنه كيان قادر على تمثيل الدولة بينما يبقى فعلياً رهينة التوافقات الداخلية المتعددة فقراراته ووجوده مرتبطان بالقدرة على التوافق بين أطرافه المختلفة ما يحوّل المجلس إلى أداة لخدمة أجندات متعددة وتظل مصالح المواطن في المرتبة الثانية هذا الواقع يمنع المجلس من اتخاذ أي قرار سيادي جوهري دون الرجوع إلى المصالح التي يمثلها كل عضو ويبعده عن كونه حكومة قادرة على إدارة البلاد . “نصف الفكرة الصحيحة” تكمن في الاعتقاد بأن توحيد القوى المختلفة سيخلق جبهة موحدة قادرة على إدارة الأزمة بفاعلية ، نظرياً هذه فكرة سليمة، لكن التطبيق العملي أظهر العكس تماماً فالمجلس لم يوحّد القوى بل رسّخ حالة التمزق من خلال تمثيله لمصالح متباينة ومتناقضة وحوّل نفسه إلى حكومة محاصصة حزبية ومناطقية عاجزة عن اتخاذ أي قرار مصيري دون الرجوع إلى الأطراف التي يمثلها كل عضو . هذا التحوّل جعل المجلس ساحة للصراعات الداخلية المستترة بدل أن يكون نواة لبناء دولة قادرة على تقديم حلول ملموسة . من زاوية استراتيجية يظهر المجلس مثالاً صارخاً على “الوهم السياسي” ، واجهة تبدو فعّالة على المستوى الإعلامي لكنها عاجزة عن تحقيق أي تقدم ملموس على الأرض واستمرار المجلس في شكله الحالي يخدم مصالح استمرار الأزمة إذ يمنح وجوده الرسمي ذريعة لتجنب اتخاذ خطوات سياسية وجذرية مثل إعادة النظر في هيكلية الدولة أو البحث عن صيغة حكم جديدة شاملة لكل الأطراف . الحل الحقيقي يبدأ بالاعتراف بفشل هذا النموذج والبحث عن رؤية جديدة تعكس إرادة الشعب وتنهي معاناته وتنتقل بالبلاد من إدارة الصراع إلى بناء الدولة ، هذا الحل قد يتطلب صيغة أكثر واقعية وفصل السلطة التنفيذية بحيث تتولى حكومة شمالية إدارة الشمال وتحريره بالكامل فيما تتولى حكومة جنوبية إدارة الجنوب المحرر مع آليات واضحة للتنسيق بينهما في القضايا الوطنية الكبرى ، مثل هذا النموذج يعيد للدولة القدرة على اتخاذ القرارات الوطنية بحرية وفاعلية ويخرج البلاد من دائرة المحاصصة والسيطرة الجزئية التي تفرضها “نصف الفكرة الصحيحة” ويضع حدّاً لإطالة أمد الأزمة والمعاناة المستمرة للمواطنين . في النهاية، لا يكفي تقوية مجلس القيادة الحالي ؛ الحل يكمن في نموذج سياسي جديد ، واقعي ، يعكس إرادة الشعب ويعيد للبلاد القدرة على إدارة مواردها واتخاذ قراراتها الوطنية بحرية وفاعلية ويضع الأساس لبناء دولة مستقرة من خلال فصل السلطات الإدارية .