الإثنين , 23 يونيو 2025
مريم بارحمة
العاصمة عدن الصامدة اعتادت أن تكون عنوانًا للتعايش والنضال، تطفو على السطح معركة مختلفة، لا تُخاض بالمدافع أو البنادق، بل بالحذر والصبر والرصد الدقيق. في عدن، تسري المخدرات بهدوء، وتتمدد في الأحياء بين المراهقين والشباب، فتُهدد الأسرة، وتربك الاستقرار الاجتماعي، وتستهدف عصب المدينة ومستقبلها.
ليست المخدرات ظاهرة جديدة على المدن، لكنها في العاصمة عدن تكتسب طابعًا خاصًا، لأنها تتزامن مع ظروف اقتصادية ضاغطة، وبنية اجتماعية هشّة، ومحاولات ممنهجة لضرب الأمن عبر وسائل غير تقليدية. وفي المقابل، تقف الأجهزة الأمنية، وفي طليعتها وحدة مكافحة المخدرات، بثبات في ميدان مواجهة غير مرئي، عنوانه: ضبط، متابعة، واستباق.
-في قلب الأحياء نشاط آخذ بالاتساع
في السنوات الأخيرة، بدأت الأجهزة الأمنية ترصد تحركات مشبوهة في أحياء متفرقة داخل عدن. في البداية بدت الأمور فردية ومبعثرة، ثم ما لبثت أن أخذت شكلًا أكثر تنظيمًا. تحركات تُشير إلى وجود محاولات لخلق بيئة رواج لمواد مخدرة متعددة، تتدرج من الحشيش التقليدي إلى المواد الكيميائية الأكثر فتكًا.
في عمق تلك المناطق، بات واضحًا أن بعض الفئات، خصوصًا في الفئات العمرية بين 16 و25 عامًا، تتعرض لمحاولات استهداف متعمدة، تستغل الواقع الاقتصادي الصعب، وانهيار الرقابة الأسرية، وفقدان التوازن التعليمي. انتشار المواد المخدرة لم يعد مقتصرًا على الشوارع أو الزوايا المعتمة، بل تسلل إلى ساحات التعليم، والمقاهي، وبعض التجمعات الشبابية.
-تغيّر طبيعة الترويج وتطور أدواته
ما يُصعّب المواجهة الأمنية هو تطور أدوات الترويج. لم تعد المخدرات تُباع في طرق بدائية، بل باتت تدخل إلى المدينة محمولة في شحنات مغلّفة، أو مموّهة داخل مواد غذائية، أو حتى في أغلفة أدوية. وقد رصدت عمليات تهريب عبر المنافذ البرية والبحرية، تُدار من جهات تسعى لتغذية السوق المحلي بمواد مشبوهة مستوردة، بعضها غير معروف حتى في الأسواق المحلية.
لم يكن أمام الجهات الأمنية سوى رفع مستوى التأهب، والعمل على تتبع الخيوط التي تقود إلى مصادر التوزيع. وخلال الفترة الأخيرة، أسفرت عدد من العمليات عن ضبط كميات كبيرة من الحبوب المخدرة، ومواد كيميائية مثل “الشبو” و”الشفرة”، التي تعتبر من أخطر ما يتم تداوله بين المراهقين.
-مواجهة أمنية ميدانية دقيقة
الجهات الأمنية في عدن، وخاصة وحدة مكافحة المخدرات، تعاملت مع الظاهرة بخطة عملية على الأرض. هذه الخطة شملت رصد الأماكن المشتبه بها، تنفيذ مداهمات نوعية، متابعة حركة العناصر المعروفة بالنشاط المشبوه، والتنسيق المستمر مع الجهات القضائية لاتخاذ الإجراءات القانونية.
العمليات التي تم تنفيذها اتسمت بالدقة والسرعة. وتمكنت الفرق الأمنية من كشف أوكار، بعضها استخدم كمخازن للمواد المخدرة، وبعضها الآخر تم تجهيزه كمراكز توزيع في أحياء شعبية. في حالات أخرى، تم ضبط حالات ترويج بالقرب من المدارس، ما يُشير إلى أن الاستهداف لا يتم بشكل عشوائي، بل هناك نية ممنهجة لتفكيك البيئة التعليمية من الداخل.
-عدن آمنة رغم الحملات المضادة
مع كل عملية ضبط، كانت تظهر على السطح شائعات عن “انتشار واسع” أو “تفلت أمني”، لكن الواقع الميداني كان مغايرًا تمامًا. فالعاصمة عدن، برغم التحديات، تُدار أمنيًا بمنظومة متماسكة، أثبتت خلال السنوات الماضية قدرتها على استيعاب المتغيرات، والتعامل مع التهديدات بشكل متدرج وفعّال.
المخدرات، وإن كانت آفة عالمية لا تخلُ منها أي مدينة، إلا أن ما يُميز عدن هو التعامل معها بواقعية ومهنية. إذ لم تُهمل الأجهزة الأمنية هذا الملف، بل تعاملت معه منذ وقت مبكر كخطر وجودي، تُبنى عليه أنماط جديدة من الجريمة، والانحراف، والانهيار السلوكي.
وفي الوقت الذي تعمل فيه مؤسسات الأمن على الحفاظ على النظام، وتوفير الحماية للمواطن، هناك أطراف مشبوهة – داخلية وخارجية – تسعى إلى تصوير عدن على أنها غارقة في الانفلات، وتستخدم أحداثًا فردية لتضخيم صورة غير واقعية، هدفها الأساسي ضرب الثقة بالاستقرار الأمني.
-الشباب خط المواجهة الأوّل
تشير المعطيات إلى أن أكثر الفئات استهدافًا من قبل المروجين هم الشباب. هؤلاء الذين يُمثلون الطاقة المجتمعية، والامتداد الطبيعي لأي مستقبل مستقر. وتُبرز الحالات المرصودة أن فئة الذكور بين 17 و24 عامًا هي الأكثر عرضة للتجريب ثم الإدمان، بسبب غياب التوعية، وارتفاع معدلات البطالة، والانفصال عن الحياة التعليمية أو المهنية.
المواد الأكثر تداولًا بين هذه الفئة لا تقتصر على الحشيش، بل تشمل حبوبًا صناعية مهدّئة أو منشطة، تُباع في الصيدليات أو الأسواق غير الرسمية، دون وصفات طبية. وهناك من يُحاول تسويق هذه المواد بوصفها “منشطات” أو “مقويات”، بينما هي في الحقيقة بوابة إلى الإدمان.
-الأثر المجتمعي للمخدرات يتعدى الفرد
عندما يُصاب شاب بالإدمان، فإن دائرة الضرر لا تتوقف عنده. الأسرة تُصاب بالانهيار، والمجتمع يفقد عنصرًا فاعلًا، وتبدأ الجرائم الصغيرة في الظهور: سرقات داخل الحي، عنف عائلي، سلوكيات عدوانية غير مبررة، وتعطّل في المسار الطبيعي للنمو الاجتماعي.
ومع كثرة الحالات، تظهر حاجة ملحة إلى برامج مجتمعية مرافقة، تعمل على التوعية، وتقديم الدعم النفسي، وتعزيز قيم الانضباط والانتماء، وإعادة دمج المتعافين داخل محيطهم الطبيعي، وهو دور لا يمكن أن تقوم به الأجهزة الأمنية وحدها.
-جهود بلا دعم كافٍ ولا مركز للتأهيل
رغم كل ما تبذله الجهات الأمنية، إلا أن العاصمة عدن وكل محافظات الجنوب، ما تزال تفتقر إلى مركز تأهيلي متكامل لمعالجة حالات الإدمان. هذا النقص يُمثل ثغرة حقيقية في مسار المواجهة. فبعد أن يتم ضبط المدمن أو إنقاذه من مرحلة التعاطي، لا يجد مكانًا حكوميًا أو خاصًا يحتضنه طبيًا ونفسيًا، ويُعالج تبعات الإدمان المزمنة.
الحاجة اليوم باتت ماسّة لإنشاء مركز حكومي مجاني متخصص للعلاج، يتكامل فيه الجانب الطبي مع النفسي والاجتماعي، ويُسهم في احتواء الظاهرة، لا فقط ردعها. إذ أن إعادة التأهيل تُعد جزءًا من المعركة، بل هي خط الدفاع الأخير لمنع الانتكاسة، وقطع الطريق أمام العودة إلى شبكات الترويج.
-عدن ليست ساحة فوضى، بل نموذج لمواجهة منظمة
كل ما يدور في الميدان يشير إلى أن العاصمة عدن ليست مدينة منهكة أو عاجزة كما يُروج البعض، بل على العكس، تقف اليوم أمام واحدة من أنجح التجارب الأمنية في بيئة صعبة ومعقدة. فالقدرة على الحفاظ على توازن الأمن، في ظل هذا التحدي، يُعد بحد ذاته إنجازًا.
العاصمة التي ترفض الغرق في الفوضى، تمضي اليوم في بناء منظومة أمنية واعية، تُدير المخاطر، وتواجهها بمنهجية، وتُراكم إنجازاتها على الأرض. وبينما تُحاول بعض الأصوات الإيحاء بضعف الحضور الأمني، تكشف الوقائع أن الجهات المختصة لا تترك مساحة دون رقابة، ولا حالة دون متابعة.
-نحو شراكة وطنية لمكافحة المخدرات
المعركة ضد المخدرات ليست مسؤولية جهاز أمني فقط، بل هي مسؤولية مجتمعية شاملة. فالأسرة، المدرسة، المسجد، الإعلام، المجتمع المدني، كلّهم جزء من المعركة. هذه الشراكة هي ما يمكن أن يصنع التحوّل الحقيقي في مواجهة الخطر، ويُحافظ على ما تبقى من طاقات المدينة.
ولأن المخدرات لا تعترف بالحدود أو الانتماءات، فإن بناء وعي جمعي رافض لها، ومتعاون مع الأجهزة المختصة، سيُشكّل الجدار الأول للحماية. ومع الدعم، واليقظة، والانتماء الحقيقي، تبقى العاصمة عدن قادرة على هزيمة هذه الآفة، كما هزمت من قبل خصومًا أكبر وأخطر.
يونيو 23, 2025
يونيو 20, 2025
يونيو 19, 2025
يونيو 17, 2025