الإثنين , 29 سبتمبر 2025
في المشهد اليمني المليء بالتقلبات، تتكرر مشاهد الدماء والاغتيالات إلى درجة جعلت القتل أداة سياسية بامتياز.
الاغتيال لم يعد مجرد جريمة جنائية بل صار وسيلة مدروسة لإدارة الصراع وتصفية الحسابات، حتى غدا سلوكاً ثابتاً لدى القوى التي تجد نفسها محاصرة بالفضائح والاتهامات.
من بين هذه القوى يبرز حزب الإصلاح – الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن – باعتباره أكثر من أتقن هذه اللعبة، وأكثر من استخدم الدم غطاءً للهروب من الأزمات.
اغتيال الشيخ مهدي العقربي في عدن جاء في توقيت لا يمكن النظر إليه كحادثة معزولة. فالجنوب بأكمله يعرف أن دماء العقربي سالت على وقع أزمة خانقة يعيشها الإصلاح في مدينة تعز، بعد اغتيال مديرة صندوق النظافة والتحسين افتهان المشهري، وما تبعه من انفجار غضب شعبي ضد الحزب الذي ظهر مكشوفاً وهو يحمي قتلة صدرت بحقهم أحكام قضائية بالقبض القهري.
كان واضحاً أن الإصلاح يحاول حرف الأنظار، وأن الجنوب مرة أخرى دُفع إلى أن يكون ساحة لتصدير أزمات الآخرين.
تعز.. مدينة الرصاص المختطفة بيد الإصلاح
مدينة تعز التي عرفت لعقود بأنها منارة الثقافة والحضارة المدنية، تحولت اليوم إلى مدينة مرهقة بالدماء.
شوارعها تشهد اغتيالات متكررة، وأحياؤها تعيش تحت وطأة الفوضى الأمنية. واليد الخفية التي تتحكم بالمشهد ليست سوى حزب الإصلاح، الذي جعل من تعز ساحة مفتوحة لصراعاته الداخلية وخططه.
الأجهزة الأمنية تبدو عاجزة، أو بالأحرى موجهة وفق إرادة الحزب. فبينما تصدر المحاكم أوامر قبض قهري بحق عشرات القتلة، يظل هؤلاء أحراراً يسرحون ويمرحون، بعضهم يظهر علناً في مناسبات ولقاءات اجتماعية، بل وأحياناً في فعاليات حزبية تابعة للإصلاح. هنا يدرك الشارع أن القانون معطل، وأن من يمسك بزمام الأمور هم من يحمون القتلة لا من يطاردونهم.
شكل اغتيال الدكتورة افتهان المشهري ذروة الانفجار. فقد كانت صوتاً مدنياً يصدح ضد الفساد، امرأة واجهت آلة الترهيب بجرأة، فكان الثمن حياتها.
فجر اغتيال الدكتورة افتهان المشهري غضباً شعبياً لم يسبق له مثيل، وجّهت أصابع الاتهام مباشرة إلى حزب الإصلاح.
لأول مرة بدا الحزب عارياً من أي غطاء، لا سيما بعدما تكشّفت علاقة قادته بحماية المتورطين.
فضيحة القتلة المحميين.. وصمة عار على جبين الإصلاح
من يتتبع ملف القتلة في تعز سيجد شبكة متداخلة من الحماية والتواطؤ يقودها حزب الإصلاح. عشرات الأحكام القضائية صدرت بالقبض القهري على أسماء محددة في جرائم اغتيال، ومع ذلك لم يُنفذ منها شيء. السبب ليس ضعف الدولة فحسب، بل وجود حزب يملك من النفوذ ما يكفي لتجميد أي قرار قضائي.
برز اسم الشيخ حمود المخلافي، الرجل الذي طالما قدّم نفسه كقائد للمقاومة الشعبية في تعز، لكنه في الواقع الأب الروحي لميليشيات الإصلاح.
يستخدم المخلافي سلطته العسكرية والسياسية لتوفير غطاء آمن لكثير من المطلوبين، ويشكّل مع قائد محور تعز وبقية القيادات الإصلاحية شبكة حماية واسعة، تحول دون وصول يد العدالة إلى المتورطين.
الأكثر خطورة أن أغلب هؤلاء القتلة ينتمون إلى اللواء 171، وهو تشكيل عسكري يتبع المخلافي بشكل مباشر، ويخضع لولائه الكامل لحزب الإصلاح. هذا اللواء لم يعد مجرد وحدة عسكرية، بل أصبح ملاذاً للقتلة، ومكاناً يتوارى فيه من صدرت بحقهم أوامر قبض. وبدلاً من أن يكون مؤسسة نظامية تحمي المواطن، تحول إلى ذراع مسلحة تدير الفوضى، وتبرر القتل باعتباره جزءاً من صراع سياسي أو عسكري.
هذه الوقائع لم تعد خافية على الشارع التعزي، الذي بات يرى الإصلاح لا كحزب سياسي بل كغطاء منظم للجريمة. ومع كل يوم يمر من دون تنفيذ أحكام القبض، تتعمق قناعة الناس بأن الإصلاح هو الحاجز الأكبر أمام قيام دولة قانون، وأن دماء أبنائهم تُهدر تحت مظلة حماية حزبية.
استراتيجية التصدير.. الهروب إلى الأمام
كلما حاصرته الأزمات في تعز، يلجأ الإصلاح إلى استراتيجية تصدير العنف. فهو لا يواجه مشاكله، بل يخلق أزمات جديدة في مناطق أخرى حتى يغيّر مسار النقاش العام.
عندما اشتعل الغضب الشعبي بعد اغتيال المشهري، أدرك الحزب أنه في ورطة حقيقية. الرأي العام بدأ يطالبه بالمحاسبة، والضغط وصل إلى ذروته،وهنا لجأ إلى الأسلوب الذي اعتاد عليه: افتعال جرح جديد بعيداً عن تعز وهذه المرة كانت العاصمة عدن على موعد مع جريمة جديدة متمثلة باغتيال الشيخ مهدي العقربي .
تشير كل الخيوط إلى أن حزب الإصلاح يقف وراءها بعد الضغط والغليان الشعبي في تعز والتظاهرات الكبيرة التي خرجت ضد الحزب واتهامه بالتورط في كل الجرائم التي حصلت في تعز فكان الهدف هذه المرة هو الجنوب من أجل حرف الأنظار عن الأحداث الجارية في تعز واستمرار المطالبة بتسليم مئات القتلة الذين صدرت ضدهم احكام بالقبض القهري ويتمتعون بحماية حزب الإصلاح.
عدن تحديداً، المدينة التي تمثل رمزية خاصة للمشروع الجنوبي، اختيرت لتكون ساحة الفوضى الجديدة. اغتيال الشيخ مهدي العقربي جاء ليملأ عناوين الأخبار، ويصرف الأذهان عن الحديث عن القتلة المحميين في تعز. بدا وكأن الدم يستخدم مرة أخرى كأداة للهروب إلى الأمام، في تكرار ممل لكنه قاتل لاستراتيجية الإصلاح.
الإعلام كجبهة موازية
إلى جانب الرصاص، كان لا بد من رواية. وهنا تحركت ماكينة الإعلام الإصلاحي بكل قوتها. مباشرة بعد اغتيال العقربي، بدأت المنصات المحسوبة على الحزب في نشر روايات متضاربة، تلقي باللوم على أطراف مختلفة، وتختلق قصصاً لإبعاد الشبهة عن الإصلاح. الهدف لم يكن كشف الحقيقة بل إغراق الرأي العام في متاهة من التضليل.
لقد اعتاد الإصلاح أن يسير القتل والإعلام معاً. الرصاص يفتح الجرح، والدعاية تسكب عليه غباراً يحجب الرؤية. لكن هذه اللعبة باتت مكشوفة أكثر من أي وقت مضى، والجنوبيون خصوصاً صاروا أقدر على التمييز بين الحقيقة والدعاية، بين ما يُفعل على الأرض وما يُقال على الشاشات.
الجنوب كضحية دائمة لتصدير الأزمات
منذ اندلاع الحرب عام 2015، ظل الجنوب الساحة المفضلة لتصدير أزمات الإصلاح. ففي عدن، شهدت المدينة موجات متكررة من الاغتيالات التي استهدفت قيادات عسكرية وأمنية، في محاولة لإضعاف البنية الأمنية. في أبين وشبوة، استُخدمت ميليشيات لإشعال الفوضى وتنفيذ تفجيرات، حتى تبقى تلك المحافظات في حالة استنزاف دائم.
هذه الوقائع تركت أثراً عميقاً في الذاكرة الجنوبية. فكلما وقع اغتيال أو تفجير، ربط الناس بينه وبين بصمات الإصلاح. ومع اغتيال العقربي، تعزز هذا الإدراك أكثر، خاصة أن التوقيت جاء متزامناً مع تصاعد الضغط الشعبي على الحزب في تعز. بدا الجنوب مرة أخرى ضحية لسياسة التصدير، وكأنه مكبّ لمشاكل الإصلاح كلما انفضحت جرائمه في الشمال.
قراءة سياسية.. لماذا الجنوب بالذات؟
ليس صدفة أن يختار الإصلاح الجنوب في كل مرة. فبالنسبة له، الجنوب يمثل التهديد الأكبر لمشروعه. وجود المجلس الانتقالي الجنوبي كقوة منظمة وقادرة على كشف جرائم الحزب، يجعله خصماً خطيراً. كما أن الجنوب بات اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى تشكيل مشروع وطني مستقل، وهو ما يثير فزع الإصلاح الذي اعتاد احتكار السلطة.
لذلك، يسعى الحزب دوماً إلى ضرب الاستقرار في الجنوب، وتشويه صورته أمام المجتمع الدولي. يريد أن يظهر الجنوب وكأنه عاجز عن إدارة نفسه، وأن أي مشروع جنوبي لن يجلب سوى الفوضى. من هنا يصبح الاغتيال أداة سياسية بامتياز، تُستخدم ليس فقط للهروب من أزمات الشمال، بل أيضاً لضرب أي إمكانية لقيام كيان جنوبي مستقل.
الشارع الجنوبي.. وعي يتنامى
ورغم كل هذه المخططات، إلا أن الشارع الجنوبي لم يعد كما كان. سنوات الدم جعلته أكثر وعياً بأساليب الإصلاح. اغتيال العقربي لم يُقرأ في عدن كلغز غامض، بل كجزء من سياق معروف ومتكرر. الناس ربطوا بين ما جرى في تعز وما حدث في عدن، وأدركوا أن الحزب يكرر لعبته القديمة.
هذا الوعي الشعبي يمثل اليوم رادعاً مهماً، لكنه في الوقت نفسه يضع الجنوب أمام تحديات جسيمة. فالمعرفة وحدها لا تكفي، ما لم تقترن بخطوات عملية لتعزيز الأمن، وحماية الشخصيات الاجتماعية والسياسية من أن تكون أهدافاً سهلة.
دماء تُراق للتغطية على دماء أخرى
عند النظر إلى الصورة الكاملة، يتضح أن اغتيال الشيخ مهدي العقربي لم يكن حادثة عابرة، بل جزءاً من استراتيجية متكررة. ففي تعز، يتورط الإصلاح بحماية قتلة ينتمون إلى اللواء 171 الموالي لحمود المخلافي، ويغطي عليهم قائد محور تعز وقيادات أخرى. وفي الجنوب، يحاول الحزب حرف الأنظار بافتعال جرائم جديدة.
هكذا تتحول الدماء إلى أداة سياسية: دماء في الشمال تُغطى بدماء في الجنوب، وجريمة في تعز تُمحى بجريمة في عدن. لكن مهما طال هذا الأسلوب، فإنه لن يغير حقيقة واحدة: أن الإصلاح يسير نحو مزيد من السقوط، وأن الجنوب يزداد وعياً وإصراراً على حماية مشروعه الوطني، بعيداً عن عبث من يرى في القتل وسيلة للسياسة.
سبتمبر 29, 2025
سبتمبر 28, 2025
سبتمبر 24, 2025
سبتمبر 22, 2025